مقدمة :
دراسة في
الأدب الأمريكي الحديث
القصة القصيرة الأمريكية الحديثة
بقلم: الدكتور
علي القاسمي
الإنسانية
والسرد:
السرد جزء من
النشاط الإنساني، قديمٌ قِدم اللغة نفسها. فمنذ أن نطق الإنسان ورواية الأحداث
تشكِّل قسطاً كبيراً من فعاليَّته اللغوية. وأدى تقدّم الإنسانية إلى ظهور الأشكال
الفنية للسرد: قصة،، رواية، مسرح، سينما، تلفزيون، يوتيوب، إلخ. وقد عرفت الحضارات
القديمة أنواعاً من السرد، شعراً ونثراً. فقد أبدع الأدب السومري
ملحمة جلجامش شعراً ( حوالي 2700 ق.م.) ودوّنها بالخط المسماري على الرقم الطينية،
وأبدع الأدب الفرعوني قصة " بحّار السفينة الغارقة" نثراً (حوالي سنة
2000 ق.م.) ودوّنها على الورق البردي.
القصة
القصيرة قطعة من السرد النثري المكثف يمكن قراءتها في جلسة واحدة؛ فهي تتناول
أحداثاً قليلة وشخصيات محدودة، وتركِّز على تطور حدث واحد لتنتج أثراً واحداً.
وعناصرها الأساسية هي : الافتتاح أو تقديم الفضاء والشخصيات الرئيسة، والحدث الذي
يثير الصراع، والأزمة وخيارات البطل، والذروة، والحل. ومن حيث الشكل،
تقع القصة القصيرة في وسطِ مربعٍ أضلاعه : الشعر، والرواية، والمسرح، والريبورتاج
الصحفي. وقد يقترب شكلها من أحد إضلاع هذا المربع أكثر من غيره.
والقصة القصيرة نوعٌ أدبي جديدٌ نامٍ ما
يزال يتطور، و لم يستقر بعد. ولعل هذا هو السرُّ في قوته. فقد تشأت القصة القصيرة
الحديثة في أوربا خلال القرن السابع عشر من تقاليد الحكي القصصي الشفهي ذي الجذور
العربية. وسجّلت حضورها في أمريكا خلال القرن التاسع عشر .
ويرى بعض النقاد أن كتاب السرد الأمريكيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر
استعاروا شكل الحكاية القصيرة من الكتّاب الألمان مثل فيلهلم كلايست، وإي. تي. أي.
هوفمان وغيرهما وطوروه ليلائم الصحف الأمريكية بحيث وصلوا إلى نوع القصة القصيرة
الذي نعرفه اليوم. ومن أبرز كتّاب القصة القصيرة في أمريكا في القرن التاسع عشر
ناثانيل هوثورن (1804 ـ 1864)، وإدغار ألن بو (1809ـ1849) الذي يُعدُّ أبا القصة
البوليسية وأبا قصة الخيال العلمي.
وفي أواخر القرن
التاسع عشر انقسمت القصة القصيرة في أمريكا إلى صنفين متميزين: صنف يتوخّى الإبداع
الفنّي الأدبي، وصنف شعبوي يتوخى الحصول على المال من الصحف والمجلات. ويقول إرنست
همنغواي –(1899 ـ
1961) في روايته السيرذاتية التي ترجمناها إلى العربية “ وليمة متنقلة” ، إنه
عاتب صديقه الأديب أف. سكوت فيتزجيرالد ( 1896 ـ 1940) على كتابة قصص من الصنف
الثاني، فاعتذر فيتزجيرالد بحاجته إلى المال. بيدَ أن كتّاب الصنف الأول من القصص
كانوا يجنون المال كذلك فقد كان الكاتب جاك لندن ( 1876ـ 1916) يكتب قصة قصيرة
واحدة شهريا لدورية ( كوزموبوليتان) ويتقاضى لقاءها ألف دولار وهو مبلغ كبير حقاً
في ذلك الوقت.
وفي مطلع القرن
العشرين، كانت هنالك عشرات الدوريات التي تحتفي بالقصة القصيرة وتفرد زاويةً خاصة
لها وتدفع المال لكتّابها، ومن أشهر هذه الدورات: أتلانتك مونثلي، هاربرز مكزين،
ذي نيويوركر، سكرابنرز، ذي ستردي إيفننغ بوست، أسكوار، وبوكمَن؛ وكانت تنشر قصة
قصيرة على الأقل في كلِّ عددٍ من أعدادها.
وفي بداية القرن
العشرين، اشتهر أو. هنري ( وهو الاسم الأدبي للكاتب وليم سدني بورتر
( 1862 ـ 1910 ). بقصصه
التي لقيت رواجاً وإقبالاً شعبياً. وكان قد بدأ بكتابة القصة في السجن
بعد أن أدانته محكمة سنة 1898 باختلاس أموالٍ عندما كان يعمل في أحد
البنوك في مدينة أوستن. وعندما كنتُ طالباً في جامعة تكساس في أوستن حوالي سنة
1970 زرت داره التي حولتها الدولة إلى متحف، فقالت لي عجوز تعمل في المتحف وكانت
في طفولتها جارة للكاتب، إنه رجل شريف وبرئ ويتهمه الناس بالاختلاس، لا تصدّقهم.
والآن يقول النقاد الأمريكان: “ ليس من المؤكد إذا كان قد اقترف الجريمة فعلاً”،
وخلّدوا ذكره بإنشاء جائزة للقصة تحمل اسمه.
الجيل الضائع
والقصة القصيرة:
الأمريكيّون
مولعون بإطلاق الأسماء على تجمُّعاتهم الأدبيّة وحركاتهم الفكريّة. وفي تاريخ
الأدب الأمريكيّ خلال القرن العشرين، نلفي مجموعتَين من الأدباء الذين أَثْروا هذا
الأدب وأثَّروا فيه، وهما: " الجيل الضائع" و " الجيل
المُتعَب".
أُطلِق مصطلح
" الجيل الضائع" على مجموعة من الأدباء
الأمريكيِّين الشباب الذين رأوا أنَّ الثقافة الأمريكيّة لم تصبح ثقافة
عالميّة متنوّعة، وإنَّما كانت آنذاك ثقافة انكلوـ سكسونيّة بروتستانتيّة حصراً،
فحزم بعضهم أمتعتهم ورحلوا إلى باريس والمدن الأوربيّة الأخرى، ليستمتعوا
بالحرِّيّة الفكريّة والثقافة العالميّة، وذلك بُعيد الحرب العالميّة الأولى (
1914 ـ 1918)، وكان معظمهم قد اشترك في معاركها، وأُصيب بخيبة أمل ومرارة بسبب
النتائج الإنسانيّة الكارثيّة التي تمخّضت عنها تلك الحرب التي اشتعلت نيرانها
بسبب المنافسة بين الدول الاستعماريّة الكبرى، وتمّ خلالها تعبئة حوالي
65 مليون جندي ، وبلغ عدد القتلى العسكريِّين الذين سقطوا إبان المعارك أكثر من 8
ملايين جندي. فالحروب تصيب قطاعات كثيرة من الناس باضطراب في التفكير، وتغيُّرٍ في
العواطف والأحاسيس، ما ينتج عنه تبدّلٌ في القيم والسلوك، ورفضٌ للقواعد السائدة
التي أدَّت إلى الحرب والقتال.
واستقرّ
معظم هؤلاء الأدباء الأمريكيين في باريس بعد الحرب العالمية الأولى أو زاروها في
العشرينيات من القرن العشرين حينما كانت العاصمة الفرنسيّة عاصمة المذاهب
الفنِّيّة الحديثة في الرسم والنحت والأدب وبقية الفنون، كالمدرسة الانطباعية
والمدرسة السيريالية وغيرهما. ويسمّي الفرنسيون تلك الفترة بـ " سنوات
الجنون" Les années folles أو الحقبة الجميلة La belle époque في فرنسا، وكانت تكاليف المعيشة منخفضة فيها آنذاك بالمقارنة
مع الولايات المتحدة الأمريكيّة حتى وقعت الأزمة الاقتصادية الكبرى في أمريكا سنة
1929. ويقول همنغواي في روايته “ وليمة متنقلة” إنه كان يكفيه أن يكتب
ثلاثة قصص في الشهر، ليسدد نفقات إقامته وزوجته وطفله في باريس..
وصار هذا المصطلح
( الجيل الضائع) يُطلق على جيل الأدباء والفنانين الأمريكان والبريطانين الذي
بلغوا سن الرجولة أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، أي الذين ولدوا في
المدة من 1883 إلى 1900.
من أدباء
وفناني الجيل الضائع: القاصّ الروائيّ إرنست همنغواي ، والروائيّ القاصّ أف. سكوت
فتزجيرالد، والشاعر الناقد عزرا باوند (1885 ـ1972)، والقاصّ الروائيّ شيروود
أندرسون (1876 ـ 1941) ، والرسّام والدو بيرس ( 1884ـ1970)، والروائيّ الفنّان جون
دوس باسوس ( 1896ـ1970)، والكاتب جون شتاينبك ( 1902 ـ 1968) والموسيقار كول بورتر
(1891ـ1964). ويضاف إلى هؤلاء، عدد من الأدباء البريطانيين الذي أقاموا في باريس
بعد الحرب العالمية الأولى مثل الشاعر الأمريكي البريطاني تي. أس. إليوت ( 1888ـ 1965) ، والروائي الإيرلندي جيمس جويس ( 1882 ـ 1941) اللذين سكنا
باريس في تلك الفترة ، وغيرهما.
ولعلَّ أشهر
أعمال الجيل الضائع الأدبيّة رواية " غاتسبي العظيم" لسكوت
فيتزجيرالد، ورواية " الشمس تشرق ثانية " لهمنغواي،
وقصيدة "الأرض اليباب " لإليوت التي يصوّر فيها مشاعر
الضياع والخيبة بعد الحرب العالميّة الأولى.
وعلى
الرغم من أنَّ الكاتبة الأمريكيّة التي كانت تعيش في باريس،غيرتيتود شتاين، هي
التي استعملت هذا المصطلح " الجيل الضائع" لتصف به الأدباء
الأمريكيِّين الشباب الذين كانوا في باريس آنذاك، فإنّها ليست من هذا الجيل، على
الرغم من أنَّ بعض النقاد يعدّونها منه.
إنَّ الذي أشاع مصطلح “ الجيل الضائغ” وروّجه هو
إرنست همنغواي، فقد استعمله في الاستشهاد الذي صدَّر به الطبعة الأولى من روايته
"الشمس تشرق ثانية" ( 1926)، كما كتب عنه فصلاً في روايته
السيرذاتية " الوليمة المتنقلة". يقول همنغواي في ذلك الفصل
عن أصل هذا المصطلح: